الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فصل نفيس في مقصود السورة الكريمة: للعلامة الدكتور محمد دراز:قال عليه سحائب الرحمة ما نصه:نظام عقد المعاني في سورة البقرة:اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة على هذا الترتيب المقدمة في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم وإنما يعرض عنه من لا قلب له أو من كان في قلبه مرض المقصد الأول في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام المقصد الثاني في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق المقصد الرابع ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع ويعصم عن مخالفتها الخاتمة في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم رغبتنا إليك أيها القارئ الكريم حين تدرس معنا تفاصيل هذا النسق أن تستظهر بالمصحف بين يديك لتكون من الموقنين بصحة ما نشير إليه في كل خطوة المقدمة في عشرين آية بدئت السورة الكريمة بثلاثة أحرف مقطعة لا عهد للعرب بتصدير مثلها في الإنشاء والإنشاد وإنما عهدوها من القراء الكاتبين في بدء تعليمهم النهجي للناشئين ومهما يكن من أمر المعنى الذي قصد إليه بهذه الأحرف والسر الذي وضعت هنا من أجله فإن تقديمها بين يدي الخطاب مع غرابة نظمها وموقعها من شأنه أن يوقظ الأسماع ويوجه القلوب لما يلي هذا الأسلوب الغريب وألحقت بهذه الأحرف الثلاثة جمل ثلاث أما أولادهن فإعلان للسامع أن ما سيتلى عليه الآن هو خير كتاب أخرج للناس وأنه ليس في الوجود ما يصلح أن يسمى كتابا بالقياس إليه ذلك الكتاب وأما الأخريان فيدعمان هذا الحكم بالحجة والبرهان أليس تفاضل الكتب إنما هو بمقياس ما تحويه من حق لا يشوبه باطل أو ليس كمال هذا الحق أن يكون نيرا لا يثير شبهة أو ليس أكمل الكمال بعد هذا وذاك أن يكون ذلك الحق مما تمس إليه حاجة الناس في إنارة السبيل وإقامة الدليل إذا ما اشتبهت عليهم السبل وتفرقت المسالك فذلكم القرآن هو جماع هذه الفضائل الثلاث فهو الحق المحض الذي لا باطل فيه بل هو الحق اللائح الذي لا شبهة باطل فيه ثم هو بعد ذلك الهدى المبين الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور لا ريب فيه هدى هكذا كان موقع هذه الجمل الثلاث بعد تلك الأحرف الثلاث موقع التنويه بالمقصود بعد التنبيه إليه وكذلك المربي الصالح يبدأ خطابه الجليل الشأن باستنصات الناس واسترعاء أسماعهم ويثني باتخاذ الوسائل المشوقة التي تثير فيهم بواعث الإقبال على طلب الاستفادة أول ما تتشوف إليه النفس بعد سماع هذا الوصف البليغ للقرآن وهدايته هو تعرف الأثر الذي سيحدثه في الناس ومقدار إجابتهم لدعوته فمست الحاجة إلى أن ينساق الحديث لبيان هذه الحقيقة العجيبة وهي انقسام الناس في شأنه إلى فئات ثلاث فئة تؤمن به وأخرى كافة وثالثة مترددة حائرة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكيف ترى ينتقل من الحديث عن الكتاب إلى الحديث عن الناس أيجعل الحديث عنهم حديثا مؤتنفا ائتنافا بحتا أم يسوقه مساق الاستدراك على ما قبله شيء من ذلك لم يكن ولكن انظر إليه وقد مزج الحديثين مزجا عجيبا يدع أدق الناس فطنة لتصريف وجوه القول لا يفطن لما حدث بينهما من الانتقال ذلك أنه في أول الأمر لم يعرض لذكر الطائفتين الأخيرتين بل أعرض عنهما كأن القرآن لم ينزل من أجلهما ثم عمد إلى الطائفة الأولى فجعل الحديث عنها من تمام الحديث عن هداية القرآن نفسه قائلا إنه هدى للمتقين الذين يؤمنون فكانت هذه اللام الجارة هي المعبرة السرية التي انزلق عليها الكلام وانصب انصبابا واحدا إلى نهاية الحديث عن المؤمنين ولقد كان قصر الانتفاع بهداية القرآن على هذه الطائفة وحدها بعد وصف القرآن بأنه الحق الواضح الذي لا ريبة فيه حريا في بادئ الرأي أن يعد من المفارقات التي تثير في نفس السامع أشد العجب إذ كيف تكون الحقائق القرآنية بهذه المرتبة من الوضوح ثم لا تنفذ إلى قلب كل من يسمعها.ومن جهة أخرى فقد كان موقف هذا النبي الرحيم في جده البالغ في دعوة أمته وحرصه الشديد على هدايتهم مصورا له في عين من يراه بصورة الطامع في إيمان الناس أجمعين الظان أن هذه الأمنية ستصبح في متناول يده متى أخذ في أسبابها العادية كأنه يرى أن ليس بينهم وبين هذه الهداية إلا أن يصل صوت القرآن إلى آذانهم فإذا هم مسلمون ذلك مع أن القرآن يكاد يحدد الآن مهمته ويقول إن الذي سينتفع بهداه إنما هو المتقون فكان هذا التحديد مظنة لأن يبتهل الرسول إلى ربه قائلا سبحانك اللهم ولم لا يهتدي به الناس أجمعون وجب إذا أن تقرر الحقيقة بصورة حاسمة لكل طماعية وتردد مريحة للنفس من طلب ما لا سبيل إليه وأن تبين مع ذلك الموانع الطبيعية من عموم هداية القرآن بأسلوب ينزه القرآن نفسه عن شائبة القصور ويرد النقص إلى قابلية القابل لا إلى فاعلية الفاعل وهل يغض من مهارة الطبيب أن يعرض المريض عن تناول الدواء منه فيموت بجهله وهل يضير الشمس ألا ينتفع بنورها العمى أو المتعامون إن الذين كفورا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون هكذا انتقل الحديث عن المؤمنين الذين سبقت لهم الحسنى إلى الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا على وجه اقتران الحديثين في القصد من أول الأمر إذا لعطف أحدهما على الآخر بل على وجه يبنى فيه بعض الكلام على بعض إجابة لهذا السؤال الذي نطقت به الحال وإزالة لذلك التعجب الذي أثاره سابق المقال وهذا هو ما يسميه علماء البلاغة بالاستئناف البياني وجرى الحديث عن هؤلاء إلى نهايته فانضم الشكل إلى شكله وعطفت الطائفة الثالثة على أختها لأنهم في التجافي عن الهدى مشتركون تتشابه قلوبهم وإن اختلفت ألسنتهم {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} وارجع الآن قليلا إلى نظام الأحاديث عن الطوائف الثلاثة لترى كيف تقابلت أوضاعها أتم التقابل فقد اشتمل الحديث في كل طائفة على ثلاثة عناصر مرتبة على هذا النمط وصف الحقيقة الواقعة فبيان السبب فيها فالإخبار عن نتيجتها المنتظرة فحقيقة الطائفة الأولى أنهم قوم حصلوا فضيلة التقوى بركنيها العلمي والعملي وسبب ذلك استمساكهم بالهدى وإمدادهم بالتوفيق من ربهم ومآل أمرهم الفوز والفلاح وحقيقة الطائفة الثانية أنهم مجردون من أساس التقوى وهو الإيمان وأنهم مصرون على ذلك إصرارا لا ينفع معه إنذار والسبب عدم انتفاعهم بما وهبهم الله من وسائل العلم فلهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها وعاقبة أمرهم العذاب العظيم وحقيقة الطائفة الثالثة صفة مركبة من ظاهر خير وباطن سوء فهم يقولون بألسنتهم إنهم مؤمنون وليس في قلوبهم من الإيمان شيء ولكل من الوصفين سبب وجزاء أما دعواهم الإيمان فسببها قصد المخادعة وجزاء الخداع عائد عليهم وأما إسرارهم الكفر فسببه مرض قلوبهم وجزاؤه زيادة المرض والعذاب الأليم وكما بين في الطائفة الثانية أنها بلغت من الإصرار والغباوة مبلغا لا يجدي معه الإنذار بين في الطائفة الثالثة أنها بلغت من الغرور والجهالة المركبة مبلغا لا ينفع فيه نصح الناصحين فهم المفسدون ويزعمون أنهم المصلحون وهم السفهاء ويزعمون أنهم الراشدون ومن لك بشفاء سقيم يعتقد أنه سليم ثم كما ختم الكلام في شأن الطائفة الأولى بأن سجل لهم وصف الهدى والفلاح ختم الكلام في شأن الطائفتين الأخريين بأن سجل عليهما وصف الضلالة والخسران على أن هذه الأوصاف التحقيقية للطائفتين لم تكن وحدها لتشفي النفس من العجب في أمرهم فالعهد بالناس أنهم إنما يختلفون في الأمور الغامضة لا في الحقائق البينة فاختلاف هؤلاء في شأن القرآن على وضوحه يعد شاذا عن العادات الجارية محتاجا إلى وصف تمثيلي يقربه من المشاهد المحس حتى يطمئن القلب إلى إمكانه لذلك ضرب الله لكلتا الطائفتين مثلا يناسبها فضرب مثلا للمصرين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فقام فيهم رجل استوقد لهم نارا يهتدون بضوئها فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعيتهم لهذا الضوء الباهر بل لأمر ما سلبوا نور أبصارهم وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجئة فذلك مثل النور الذي طلع به محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الأمة الأمية على فترة من الرسل فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية فلم يرفعوا له رأسا بل نكسوا على رءوسهم ولم يفتحوا له عينا بل خروا عليه صما وعميانا قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد وضرب مثلا للمترددين المخادعين بقوم جادتهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعود وبروق فأما الغيث فلم يلقوا له بالا ولم ينالوا منه نيلا فلا شربوا منه قطرة ولا استنبتوا به ثمرة ولا سقوا به زرعا ولا ضرعا وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم ومناط تفكيرهم ولذلك جعلوا يترصدونها ويدبرون أمورهم على وفقها لابسين لكل حال لبوسها سيرا تارة ووقوفا تارة واختفاء تارة أخرى ذلك مثل القرآن الذي أنزله الله غيثا تحيا به القلوب وتنبت به ثمرات الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة ثم ابتلي فيه المؤمنين بالجهاد والصبر وجعل لهم الأيام دولا بين السلم والحرب وبين الغلب والنصر فما كان حظ بعض الناس منه إلا أن لبسوا شعاره على جلودهم دون أن يشربوا حبه في قلوبهم أو يتذوقوا ما فيه من غذاء الأرواح والعقول بل أهمتهم أنفسهم وشغلتهم حظوظهم العاجلة فحصروا كل تفكيرهم فيما قد يحيط به من مغانم يمشون إليها أو مغارم يتقونها أو مآزق تفقهم منه موقف الروية والانتظار وهكذا ساروا في التدين به سيرا متعرجا متقلبا مبنيا على قاعدة الربح والخسر والسلامة الدنيوية فكانوا إذا رأوا عرضا قريبا وسفرا قاصدا وبرقت لهم بروق الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنبا إلى جنب وإذا دارت رحا الحرب وانقضت صواعقها منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين إن بيوتنا عورة أو رجعوا من بعض الطريق قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة بل اشتبهت عليهم الأمور وتلبد الجو بالغيوم فنالك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون ولكن يلزمون شقة الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ذلك أبدا دأب المنافقين في كل أمرهم إن توقعوا ربحا عاجلا التمسوه في أي صف وجدوه وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء من المكروه وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيدا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإن له قبلة واحدة يولي وجهه شطرها هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم وليس يبالي حين يقتل مسلما على أي جنب كان الله مصرعه هنا تمت المقدمة بعد أن وصفت القرآن بما هو أهله ووصفت متبعيه ومخالفيه كلا بما يستحقه ولا مرية أن وصف هذه الطوائف جميعها راجع في المآل إلى الثناء على القرآن فإن الشيء الذي يكون متبعوه هم أهل الهدى والفلاح ومخالفوه هم أهل الضلالة والخسر لا يكون إلا حقا واضحا لا ريب فيه فما هو ذلك الحق الذي لا يتبعه إلا مهتد مفلح ولا يعرض عنه إلا ضال خاسر بل ما هو ذلك الحق الذي ضربت له الأمثال بالضياء الباهر والغيث الكثير لا شك أن هذا كله تشويق أي تشويق لسماع الحقائق التي يدعو القرآن الناس إليها فانظر على أي نحو ساق بيانها لقد كان ظاهر السياق يقضي بأن يقال أن هذه الحقائق هي أن يعبدوا ربهم وحده ويؤمنوا بكتابه ونبيه إلخ جريا على أسلوب الغيبة الذي جرى عليه في وصف الكتاب وفي وصف الناس ولكنه حول مجرى الحديث من الأخبار والغيبة إلى النداء والمخاطبة قائلا يأيها الناس اعبدوا ربكم أتعرف شيئا من سر هذا التحويل إن ذلك الوصف الدقيق الذي وصف القرآن به الطوائف الثلاث متقين وكافرين ومخادعين قد نقلهم عند السامع من حال إلى حال فبعد أن كانوا غيبا في مبدأ الحديث عنهم أصبحوا الآن بعد ذلك الوصف الشافي حاضرين في خيال السامع كأنهم رأي عين وفي مكان ينادون منه فاستحقوا أن يوجه الحديث إليهم كما يوجه إلى الحاضرين في الحس والمشاهدة هذا من الناحية العامة وأما من الناحية الأخرى فإن هذه الأمثال البليغة التي ضربت في شأن المعرضين خاصة قد أبرزتهم أمام السامع في صورة محزنة تبعث في نفسه أقوى البواعث لنصحهم وتحذيرهم حتى أنه لا يشفي صدره إلا أن يناديهم أو يسمع من يناديهم أن افتحوا أعينكم أيها القوم وتعالوا إلى طريق النجاة وهكذا استعدت النفس أتم استعداد لسماع هذا النداء يأيها الناس اعبدوا ربكم الآيات إلى آخر..المقصد الأول من مقاصد السورة في خمس آيات: في هذه الآيات الخمس تسمع نداء قويا موجها إلى العالم كله بثلاثة مطالب أن لا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا أن آمنوا بكتابه الذي نزله على عبده أن اتقوا أليم عذابه وابتغوا جزيل ثوابه هذه المطالب الثلاثة هي الأركان الثلاثة للعقيدة الإسلامية تراها قد بسطت مرتبة على ترتيبها الطبيعي من المبدأ إلى الواسطة إلى الغاية وترى كل واحد من الركنين الأولين قد أقيم على أساس من البرهان العقلي القاطع لكل شبهة أما الركن الثالث فقد جيء به مجردا عن هذا النوع من البرهان ولكنه نفخ فيه من روح الإلهاب وتحريك الوجدان بالتحذير والتبشير ما يسد في موضعه مسد البرهان على أنك إذا أنعمت النظر في هذا الركن وجدته في غنى عن برهان جديد بعد تقرر سابقيه إذ هو منهما بمنزلة النتيجة المنطقية من مقدماتها أرأيت لو أن ملكا عظيم السلطان نافذ الحكم وجه إلي سفيرا يحمل رسالة منه أيقنت أن الذي بيد السفير هو كتاب الملك المختوم بخاتمه أكان يعوزك برهان جديد لتحقيق ما يحويه الكتاب من عجيب الأنباء والنذر بعدما وقر في نفسك من العلم بأنه كلام من إذا قال صدق وإذا وعد أنجز فكذلك ترى الحديث هنا عن السمعيات جيء به مفرعا على ما تقرر في أمر النبوات وبضرب من التخلص هو غاية في الحسن والبراعة فإن لم تفعلوا فاتقوا النار عود على بدء في أربع عشرة آية بدأ الكلام في السورة كما علمت بوصف القرآن بما فيه من الهدى إجمالا فكان من الحق أن يعود إلى وصف طريقة القرآن في هذه الهداية ليقول إنها هداية كاملة بالبيان الوافي الشامل لكل شيء فانظر كيف مهد لهذا الانتقال تمهيدا يتصل من أول السورة إلى هذا الموضع أما المقدمة فقد وصف فيها الفرق الثلاث وصفا شافيا ضرب للناس أمثالهم وحقق أن الذي كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم وأما المقصود فقد بين فيه أن لله وحده المثل الأعلى الذي يشاركه فيه شيء من الأنداد ثم وضع فيه الفيصل بين النبي والمتنبي بتلك المعجزة العالمية التي لا يستطيع أحد من دون الله أن يأتي بمثلها ثم ذكر مثل النار التي أعدت للكافرين ومثل الجنة التي وعد المتقون فتراه قد تناول في هذه الأمثال ضروبا شتى من الحقائق علوية وسفلية مادية ومعنوية حتى كانت نهاية الحديث أن عرض ما في الجنة من أنواع المتع واللذائذ الشخصية والجنسية تلك المعاني التي قد يستحي المرء ذكرها وقد يخالها الجاهل نابية عن سنن الخطاب الإلهي الأعظم غافلا عن أنه الحق الذي لا يستحي من الحق وأنه الرحيم الذي يتنزل برحمته إلى مستوى العقول البشرية فيبين لهم كل ما يحتاجون إلي بيانه مما يحبون أو يكرهون ومما يرجون أو يحذرون وهكذا انساق الحديث من ذكر هذه النماذج المتفاوتة إلى استنباط القاعدة الكلية منها ببيان أن هذه هي طريقة القرآن في هدايته فهو يضرب الأمثال كلها ويبين الحقائق حلوها ومرها واضعا كل شيء في موضعه مسميا له باسمه لا يبالي أن يتناول في بيانه جلائل الأمور أو محقراتها إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها حقا إن شأن الكتاب في تفصيل الحق والباطل والضار والنافع شأن كتاب الأعمال في تفصيل الحسنات والسيئات كلاهما لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وكما أن وصف القرآن بالهدى إجمالا قد جر هناك إلى ذكر انقسام الناس في قبول هدايته وإلى النعي على من أعرض عنه كذلك وصف طريقته في الهداية قد جرها هنا إلى مثل هذا التقسيم يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وإلى النعي على الضالين بذكر مساوئهم وتفصيل نقائصهم وما يضل به إلا الفاسقين وكما أن بيان أوصافهم هناك قد جلاهم أمام السامع في صورة تحرك داعيته لسماع ندائهم بالنصح والتعليم كذلك بيان أوصافهم هنا قد استفز النفوس إلى سماع مخاطبتهم بالتعجيب والإنكار كيف تكفرون بالله الآيات وكذلك عاد الكلام إلى المقصد الأول بأركانه الثلاثة ولكن في ثوب جديد أما في الركن الأول فقد سمعته هناك يأمر بعبادة الله وتسمعه هنا ينهى عن الكفر بالله وهناك ذكرهم بنعمة إيجادهم مجملة وهنا يذكرهم بها مفصلة متممة وهناك عرفهم بنعمة تسخير الأرض والسماء لهم وهنا يعرفهم بذلك في شيء من التفصيل وأما في الركن الثاني فقد ذكر هناك نبوة هذا النبي الخاتم وهنا يذكر نبوة ذلك النبي الأول آدم لنعلم أن نبينا لم يكن بدعا من الرسل وأن أمر التشريع والنبوات أمر قديم يتصل بنشأة الإنسان وقد مهد لهذا البيان بذكر تاريخ تلك النشأة العجيبة وما جرى في شأنها من الحديث مع الملائكة ذلك الحديث الدال على مزيد العناية الإلهية بهذا النوع البشري إذ اختاره الله لخلافة الأرض وآثره على سائر الخلق بفضيلة العلم ليكون الامتنان بذلك جاريا مع الامتنان بالنعم المذكورة في الركن الاول على أحسن نسق ثم اتصل من هذا التفضيل إلى شرح ما نشأ عنه من حسد إبليس وعداوته القديمة للإنسان الأول ومخادعته إياه بوساوسه وما انتهى إليه أمر الخادع والمخدوع من ابتلائهما وابتلاء ذريتهما بالتكاليف وهو كما ترى حديث يطلب بعضه بعضا ويأخذ بعضه بأعناق بعض وأما في الركن الثالث فقد رأيته هناك يصف الجنة والنار بما لهما من وصف رائع أو مروع وتراه هنا يكتفي عن وصفهما بذكر اسمهما وتعيين أهلهما ناظما وضع الأجزية مع وضع التكاليف في سلك واحد ومتخلصا أحسن تخلص من أحدهما إلى الآخر بتقرير أن اتباع التكاليف أو عدم اتباعها هو مناط السعادة أو الشقاوة في العقبى ولقد ختم الكلام هنا كما ختمه في المقدمة بشأن المخالفين تمهيدا للانتقال مرة أخرى إلى نداء فريق منهم ودعوتهم إلى الإسلام وهو المقصد الثاني.
|